فصل: الشاهد الحادي والثلاثون بعد الخمسمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


باب العلم

أنشد فيه‏:‏ البسيط

سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به *** وقبلنا سبح الجودي والجمد

على أن سبحان أكثر ما يستعمل مضافاً، وإذا قطع فقد جاء منوناً في الشعر، كما في البيت، فلا يكون سبحان علماً معرفاً بالعلمية بل تعريفه إما بالإضافة لفظاً كسبحان الله، وتقديراً كما في قوله‏:‏ السريع

سبحان من علقمة الفاخر

أي‏:‏ سبحان الله‏.‏

وإما باللام، وهو قليل كقوله‏:‏ الرجز

سبحانك اللهم ذا السبحان

وإذا قطع عن الإضافة في الشعر نون ونصب على المفعولية المطلقة كسائر المصادر‏.‏ فسبحان عنده إما معرف بالإضافة وباللام، وإما منكر في الشعر، ولا علمية‏.‏

وقريبٌ منه قول الطيبي في حاشية الكشاف‏:‏ لا يستعمل سبحان علماً إلا شاذاً، وأكثر استعماله مضافاً، فليس بعلمٍ؛ لأن الأعلام لا تضاف‏.‏

وقد رد ابن هشام في الجامع الصغير، بعين ما رد به الشارح المحقق، إلا أنه قال‏:‏ لملازمته للإضافة‏.‏

هذا محصله، وهو مخالفٌ لكلام سيبويه فمن بعده‏.‏ والباعث له على المخالفة ما ذكره‏.‏ قال س في باب ما ينتصب من المصادر على إضمار الفعل المتروك إظهاره‏:‏ زعم أبو الخطاب أن سبحان الله كقولك‏:‏ براءة الله من السوء، كأنه يقول‏:‏ أبرأ براءة الله من السوء‏.‏

وزعم أن مثله قول الأعشى‏:‏

أقول لما جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر

أي‏:‏ براءةً منه‏.‏ وأما التنوين في سبحان، فإنما ترك صرفه، لأنه صار عندهم معرفة، وانتصابه كانتصاب الحمد لله‏.‏

وزعم أن قول الشاعر‏:‏ الوافر

سلامك ربنا في كل فجرٍ *** بريئاً ما تغنثك الذموم

على قوله برأتك ربنا من كل سوء‏.‏ فكل هذا ينتصب انتصاب حمداً وشكراً، إلا أن هذا ينصرف، وذلك لا ينصرف‏.‏ ونظير سبحان الله في البناء من المصادر والمجرى، لا في المعنى‏:‏ غفران، لأن بعض العرب، يقول‏:‏ غفرانك لا كفرانك، يريد‏:‏ استغفاراً لا كفراً‏.‏

وقد جاء سبحان منوناً مفرداً في الشعر، قال الشاعر‏:‏

سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به

شبهوه بقولهم‏:‏ حجراً، وسلاماً‏.‏ انتهى كلام سيبويه‏.‏

وقوله‏:‏

سبحان من علقمة الفاخر

قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه نصب سبحان على المصدر، ولزومها النصب من أجل قلة التمكن‏.‏ وحذف التنوين منها، لأنها وضعت علماً للكلمة، فجرت في المنع من الصرف، مجرى عثمان ونحوه، ومعناها البراءة والتنزيه‏.‏

وقوله‏:‏ سلامك ربنا إلخ، قال الأعلم‏:‏ الشاهد في نصب سلامك على المصدر الموضوع بدلاً من اللفظ بالفعل، ومعناه البراءة والتنزيه، وهو بمنزلة سبحانك في المعنى وقلة التمكن‏.‏

ونصب بريئاً على الحال المؤكدة، والتقدير‏:‏ أبرئك بريئاً لأن معنى سلامك كمعنى أبرئك، ومعنى تغنثك‏:‏ تعلق بك، وهي بالثاء المثلثة‏.‏ والذموم‏:‏ جمع ذم‏.‏ أي‏:‏ لا تلحقك صفة ذم‏.‏

والبيت لأمية بن أبي الصلت‏.‏

وقوله‏:‏ سبحانه ثم سبحانا إلخ، قال الأعلم‏:‏ الشاهد قوله سبحاناً، وتنكيره وتنوينه ضرورة، والمعروف فيه أنه يضاف إلى ما بعده‏:‏ ويجعل مفرداً معرفة كما تقدم في بيت الأعشى‏.‏ ووجه تنكيره وتنوينه أن يشبه ببراءةً لأنه في معناها‏.‏ والجودي والجمد، بضمتين‏:‏ جبلان‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن خلف‏:‏ قوله‏:‏ سبحاناً فيه وجهان‏:‏ يجوز أن يكون نكرة فصرفه، ويجوز أن يكون صرفه للضرورة‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا من كلام أبي علي في التذكرة القصرية، قال‏:‏ سبحاناً يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون هو الذي كان يضيفه في سبحانه‏.‏ ويجوز أن يكون معرفةً في الأصل ثم نكر، كزيد من الزيدين‏.‏ وجاز إفراد سبحان، وإن لم يستعمل ذلك في الكلام، فجاء في الشعر، كما استعمل العلم، في قوله‏:‏

سبحان من علقمة الفاخر

انتهى‏.‏

ويكون تنوينه على الأول ضرورة‏.‏ وإلى الثاني ذهب ابن الشجري في أماليه، قال‏:‏ سبحان في قول الأعشى‏:‏

سبحان من علقمة الفاخر

لم يصرفه لأن فيه الألف والنون زائدين، وأنه علمٌ للتسبيح‏.‏ فإن نكرته صرفته، كما قال أمية‏.‏

سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وقد تقدم في الشاهد الرابع والستين بعد الأربعمائة النقل عن تذكرة أبي علي ما يتعلق بتنوين سبحان بأبسط من هذا، فارجع إليه‏.‏

وقال ابن يعيش في شرح المفصل‏:‏ سبحان علمٌ عندنا واقع على التسبيح، وهو مصدر معناه البراءة والتنزيه، وليس منه فعل وإنما هو واقعٌ موقع التسبيح الذي هو المصدر في الحقيقة، جعل علماً على هذا الموضع، فهو معرفة لذلك ولا ينصرف، للتعريف وزيادة الألف والنون‏.‏

قال الأعشى‏:‏

سبحان من علقمة الفاخر

فلم ينونه لما ذكرنا من أنه لا ينصرف‏.‏ فإن أضفته قلت‏:‏ سبحان الله، فيصير معرفة بالإضافة، وابتز منه تعريف العلمية، كما قلنا في الإضافة، نحو‏:‏ زيدكم وعمركم، يكون بعد يلب العلمية‏.‏

فأما قوله‏:‏

سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به

ففي تنوين سبحاناً هنا وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون ضرورةً كما يصرف ما لا ينصرف في الشعر، من نحو أحمد وعمر‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن يكون أراد النكرة‏.‏ انتهى‏.‏

وقد حمل صاحب الكشف قول الزمخشري‏:‏ سبحان على للتسبيح على أنه علم مطلقاً سواء أضيف ولم ينضف‏.‏ وكذا قال الفناري في حاشية ديباجة المطول‏:‏ إنه علمٌ، أضيف، ولم يضف، وهو غير منصرف للألف والنون مع العلمية‏.‏

وهذه طريقة ابن مالك، وتبعه الشارح المحقق، وهي أن العلم يجوز أن يضاف مع بقائه على علميته من غير قصد تنكير‏.‏ ولا يرد بهذا على الشارح المحقق هنا، كما زعمه بعض مشايخنا، لأنه قد نقل أنه يعرف باللام تارة، وينكر تارة‏.‏

وأما قوله‏:‏ إنه ممنوعٌ من الصرف مع الإضافة أيضاً، فلعله مفرع على القول بأنه، إذا لم تزل إحدى العلتين فهو غير منصرف وإن كان مضافاً‏.‏

وهذه عبارة صاحب الكشف‏:‏ قوله‏:‏ سبحان علم للتسبيح ، الظاهر من إطلاقه ها هنا، وفي المفصل أنه علم للتسبيح، أي‏:‏ التنزيه البليغ لا التسبيح بمعنى قول سبحان الله مطلقاً، مضافاً كان أم لا، خلاف ما نص عليه الشيخ ابن الحاجب أن ذلك في غير حال الإضافة‏.‏

والوجه ما ذهب إليه العلامة، لأنه إذا ثبتت العلة بدليلها فالإضافة لا تنافيها، وليست من باب زيد المعارك لتكون شاذة، بل من باب حاتم طيئ وعنترة عبس، ولهذا لم يضف إلا إلى اسم من أسمائه تعالى‏.‏

ولو لم يحمل على ما ذكرت لم يكن لقوله سبحان علم للتسبيح في هذا الموضع معنًى‏.‏

وأما دلالته على التنزيه البليغ فمن الاشتقاق، أعني من التسبيح، وهو الإبعاد في الأرض‏.‏ ثم ما يعطيه نقله إلى التفعيل، ثم العدول من المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة، لا سيما وهو علم، يشار به إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن، وما فيه من قيامه مقام المصدر مع الفعل‏.‏

ولهذا لم يجز استعماله إليه فيه تعالت أسماؤه وعظم كبرياؤه‏.‏ وكأنه قيل‏:‏ ما أبعد الذي له هذه القدرة عن جميع النقائض، فلا يكون اصطفاؤه لعبده الخصيص به إلا حكمةً وصواباً‏.‏ فالتنزيه لا ينافي التعجب كما توهم واعترض وجعله مداراً‏.‏ والتعجب ها هنا هو الوجه، بخلافه في قوله‏:‏ سبحانك هذا بهتانٌ عظيم ‏.‏ فافهم‏.‏ انتهى‏.‏

وقد تضمن كلامه جواب من استشكل العلمية بأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن مدلول التسبيح لفظ، لأنه مصدر سبح إذا قال سبحان الله، ومدلول سبحانه التنزيه، لا اللفظ، فلا يصلح جعل سبحان الذي مدلوله معنًى، على ما مدلوله لفظ‏.‏

وثانيهما‏:‏ ما ذكره البهلوان في حاشية الكشاف من أنه قد تقرر أن العلم لا تجوز إضافته إلا بعد تنكيره، وطريق تنكير العلم، أن يؤول بواحد من الأمة المسماة به‏.‏

وعلم الجنس مسماه شيءٌ واحد لا متعدد، فلا يصلح تنكيره‏.‏

وقول صاحب الكشف‏:‏ وليست من باب زيد المعارك، أي‏:‏ من إضافة العلم إلى ما هو متصف به معنًى، قصد به رد كلام الطيبي‏.‏

وأشار أبو السعود في تفسيره لردهما بقوله‏:‏ وحيث كان المسمى معنًى لا عيناً، وجنساً لا شخصاً، لم تكن إضافته من قبيل ما في زيد المعارك وحاتم طيئ‏.‏ وإنما فعل هذا، لأن نحو‏:‏ زيد المعارك، لا يكون إلا في علم الشخص دون علم الجنس‏.‏

قال صاحب اللباب‏:‏ طريق تنكير العلم، أن يتأول بواحدٍ من الأمة المسماة به، نحو‏:‏ هذا زيد، ورأيت زيداً آخر‏.‏ ويكون صاحبه قد اشتهر بمعنًى من المعاني، فيجعل بمنزلة الجنس الدال على ذلك المعنى، نحو قولهم‏:‏ لكل فرعونٍ موسى‏.‏

قال شارحه‏:‏ قوله وطريق تنكير العلم، أي‏:‏ من أعلام الأشخاص، لا من أعلام الأجناس، فإنه لا ينكر بالطريق الأول، لأن من شرطه أن يوجد الاشتراك في التسمية، والمسمى بعلم الجنس واحدٌ لا تعدد فيه، اللهم إلا أن يوجد اسمٌ مشترك أطلق بحسب الاشتراك على نوعين مختلفين، ثم ورد الاستعمال فيه مراداً به واحدٌ من المسمى به‏.‏

وأما بالطريق الثاني فلا شبهة في إمكان تنكيرها، مثل أن يقال‏:‏ فرست كل أسامةٍ، أي‏:‏ بالغ في الشجاعة‏.‏

وقوله‏:‏ وزيداً آخر تأويله المسمى بزيد، وحينئذ يصير اسم جنس متواطئاً يدخل فيه كل من سمي به‏.‏

وقوله‏:‏ لكل فرعونٍ موسى ، أي‏:‏ لكل ظالم مبطلٍ عادل محقٌّ‏.‏ ويجوز أن يبقى العلم في هذا على حاله، ويكون المضاف محذوفاً، أي‏:‏ لمثل كل فرعونٍ مثل موسى‏.‏ وليس المراد هنا مسمًّى بموسى، ولا مسمًّى بفرعون‏.‏ انتهى‏.‏

ويمكن تصوير تنكير العلم الجنسي بطريقٍ آخر، وهو أن يجرد عن ملاحظة التعيين، ويراد به مطلق الماهية في ضمن أي فردٍ من أفراده‏.‏

والحاصل أن القول بالعلمية مطلقاً أضيف، ولم يضف صعب‏.‏

ولله در الشارح المحقق، تفصى عن الأمور بسلوكه طريقةً وسطى، لا يرد عليها ما ذكر، وإن كانت مخالفةً للجمهور‏.‏

بقي بحثٌ في عامل سبحان، هل يجوز أن يقدر فعل أمر‏؟‏ فيه نزاعٌ‏.‏

ذكر السيد في شرح المفتاح في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاءها نوجي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين‏}‏ أن قوله وسبحان بتقدير الأمر، تنزيهاً له تعالى في مقام المكالمة عن المكان والجهد، أي‏:‏ وسبحه تسبيحاً‏.‏ انتهى‏.‏

وقال القاضي، في فسبحان الله حين تمسون‏:‏ إخبارٌ في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى، والثناء عليه في هذه الأوقات‏.‏

وقال بعض من كتب عليه‏:‏ لم يجعله أمراً ابتداءً، لأن سبحان الله على ما بين في النحو لزم طريقةً واحدة، لا ينصبه فعل أمر‏.‏

وجوز الأمرين أبو شامة في‏:‏ سبحان الذي أسرى ، قال‏:‏ إن فعله المحذوف إما فعل أمر، وخبر، أي‏:‏ سبحوا، وسبح الذي أسرى بعبده، على أن يكون ابتداءً ثناءً من الله على نفسه، كقوله‏:‏ الحمد لله رب العالمين ‏.‏

والبيت من أبيات لورقة بن نوفل الصحابي، قالها لكفار مكة حين رآهم يعذبون بلالاً على إسلامه، تقدم شرحها مع ترجمته في الشاهد الرابع والثلاثين بعد المائتين‏.‏

وقبله‏:‏

سبحان ذي العرش لا شيءٌ يعادله *** رب البرية فردٌ واحدٌ صمد

وقوله‏:‏ نعوذ به يريد كلما رأينا أحداً يعبد غير الله، عدنا بعظمته، وسبحنا حتى يعصمنا من الضلال‏.‏

وروى الرياشي‏:‏ نعوذ له بالدال المهملة واللام، أي‏:‏ نعاوده مرة بعد مرة‏.‏ والجودي‏:‏ جبل بالموصل، وقيل‏:‏ بالجزيرة‏.‏ والجمد، بضم الجيم والميم‏:‏ جبلٌ أيضاً بين مكة والبصرة‏.‏ ومفعول سبح محذوف، أي‏:‏ سبحه الجودي‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثامن والعشرون بعد الخمسمائة

‏؟‏سبحانك اللهم ذا السبحان على أن سبحان جاء معرفاً باللام فلا يكون علماً، فلا يأتي فيه ما زعمه بعضهم من أنه علمٌ ولو أضيف‏.‏ وذا بمعنى صاحب منصوب لأنه تابع للهم على المحل‏.‏

وهذا الرجز أنشده ابن مالك في شرح الكافية، قال في نظمها‏:‏

سبحان في غير اختيار أفرد *** ملابس التنوين ومجردا

وشذ قول راجزٍ رباني *** سبحانك اللهم ذا السبحان

وقال في الشرح‏:‏ من الملتزم الإضافة سبحان، وهو اسمٌ بمعنى التسبيح، وليس بعلم، لأنه لو كان علماً، لم يضف إلى اسم واحدٍ كسائر الأعلام‏.‏ وأخلي من الإضافة لفظاً للضرورة، منوناً وغير منون‏.‏

فالتنوين كقول الشاعر‏:‏

سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وغير المنون، كقول الآخر‏:‏

سبحان من علقمة الفاخر

وزعم الزمخشري وأبو علي أن الشاعر ترك تنوين سبحان، لأنه علمٌ على التسبيح، فلا ينصرف للعلمية وزيادة الألف والنون‏.‏

وليس الأمر كما زعما، بل ترك التنوين لأنه مضاف إلى محذوف مقدر الثبوت، كما قال الراجز‏:‏ الرجز

خالط من سلمى خياشيم وفا

أراد‏:‏ وفاها‏.‏ وشذ دخول الألف واللام على سبحان والإضافة إليه، فيما أنشده ابن الشجري، من قول الراجز‏:‏

سبحانك اللهم ذا السبحان

انتهى‏.‏

وأورده أبو حيان أيضاً في الارتشاف كما يأتي بعد هذا‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

سبحان من علقمة الفاخر

على أنهم استدلوا به على علمية سبحان بمنعه من الصرف للعلمية، وزيادة الألف والنون كعثمان‏.‏ ورده الشارح المحقق بأنه من قبيل المضاف، أي‏:‏ سبحان الله، حذف المضاف إليه، وأبقى المضاف على حاله من التجرد عن التنوين‏.‏

والشارح المحقق مسبوق بهذا الرد، نقله أبو حيان في الارتشاف قال فيه‏:‏ معنى سبحان الله براءةً من السوء‏.‏ ويستعمل مفرداً منوناً، وغير منون‏.‏

فإذا قلت‏:‏ سبحان فهو ممنوع من الصرف عند سيبويه للعلمية وزيادة الألف والنون‏.‏

وقيل‏:‏ هو مضاف في التقدير، ترك على هيئته حين كان مضافاً في اللفظ‏.‏ وهو اسمٌ موضع المصدر الذي هو التسبيح، وأصله الإضافة، ثم استعمل مقطوعاً عنها منوناً في الشعر، وغير منون‏.‏ وقيل‏:‏ وضع نكرةً جاريةً مجرى المصادر، فعرف بالإضافة وبأل‏.‏ قال‏:‏

سبحانك اللهم ذا السبحان

انتهى‏.‏

وممن حكى ما رده الشارح، ابن الحاجب في شرح المفصل قال‏:‏ والذي يدل عليه أنه علمٌ قول الشاعر‏:‏

قد قلت لما جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر

ولولا أنه علم لوجب صرفه، لأن الألف والنون في غير الصفات، إنما تمنع مع العلمية، ولا يستعمل سبحان علماً إلا شاذاً‏.‏ وأكثر استعماله مضافاً‏.‏

وإذا كان مضافاً فليس بعلم، لأن الأعلام لا تضاف، وهي أعلام، لأنها معرفة، والمعرفة لا تضاف‏.‏ وقيل‏:‏ إن سبحان في البيت حذف المضاف إليه، وهو مرادٌ للعلم به‏.‏ انتهى‏.‏

وزعم الراغب أن سبحان في هذا البيت مضاف إلى علقمة ومن زائدة‏.‏

وهو ضعيف لغةً وصناعة‏.‏

أما الأول فلأن العرب لا تستعمله مضافاً إلا إلى الله، وإلى ضميره، وإلى الرب، ولم يسمع إضافته إلى غيره‏.‏

وأما صناعة فلأن من لا تزاد في الواجب عند البصريين‏.‏ وسبحان هنا للتعجب، ومن داخلةٌ على المتعجب منه‏.‏ والأصل فيه أن يسبح الله، عند رؤية العجيب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجبٍ منه‏.‏

وصاحب الصحاح - وتبعه صاحب العباب، نظرا إلى ظاهره - فقال‏:‏ العرب تقول‏:‏ سبحان من كذا، إذا تعجبت منه‏.‏

قال الأعشى يذكر علقمة بن علاثة‏:‏

أقول لما جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر

يقول‏:‏ العجب منه إذ يفخر‏.‏ وإنما لم ينون، لأنه معرفةٌ عندهم، وفيه شبه التأنيث‏.‏ انتهى‏.‏

ولا يخفى ضعفه‏.‏ ووجود الزيادة تغنى عن شبه التأنيث‏.‏

والبيت من قصيدةٍ للأعشى ميمون، هجا بها علقمة بن علاثة الصحابي، وفضل عدو الله عامر بن الطفيل عليه‏.‏

وقد تقدم شرحها وسببها في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائتين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

خالط من سلمى خياشيم وفا

على أن أصله وفاها، حذف المضاف إليه، وبقي المضاف على حاله‏.‏

وتقدم شرحه في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائتين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الكامل

ولأنت أجرأ من أسامة إذ *** دعيت نزال ولج في الذعر

تقدم شرحه في الشاهد السابع والستين بعد الأربعمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ البسيط

كأن فعلة لم تملأ مواكبه *** ديار بكرٍ ولم تخلع ولم تهب

وقد تقدم شرح هذا أيضاً في الشاهد السادس والثمانين بعد الأربعمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الطويل

رأيت الوليد بن اليزيد مبارك *** شديداً بأحناء الخلافة كاهله

وتقدم شرحه أيضاً في الشاهد التاسع عشر بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الطويل

علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم *** بأبيض ماضي الشفرتين يماني

وهذا أيضاً تقدم شرحه في الشاهد الثامن عشر بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد التاسع والعشرون بعد الخمسمائة

الكامل

سكنوا شبيثاً والأحص وأصبحت *** نزلت منازلهم بنو ذبيان

وإذا فلانٌ مات عن أكرومةٍ *** رقعوا معاوز فقده بفلان

على أن فلاناً يجوز أن يأتي في غير الحكاية، خلافاً للمصنف وابن السراج، كما في البيت الثاني؛ فإن فلاناً الأول وقع فاعلاً لفعل يفسره ما بعده‏:‏ وفلاناً الثاني جر بالياء، وهما وقعا في غير حكاية‏.‏

والمصنف ذهب إلى هذا في شرح المفصل قال في آخر شرح العلم‏:‏ ولم يثبت استعمال فلان إلا حكاية، لأنه اسم اللفظ الذي هو علم، لا اسم مدلول العلم، فلذلك لا يقال‏:‏ جاءني فلان، ولكن يقال‏:‏ قال زيد‏:‏ جاءني فلان‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً‏}‏، فهو إذن اسم الاسم‏.‏ انتهى‏.‏

والبيتان للمرار الفقعسي، قد سقط من بينهما بيت‏.‏

وروى القالي في أماليه عن ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي، قال‏:‏ بينا أنا بحمى ضرية، إذ وقف علي غلامٌ من بني أسد في أطمارٍ، ما ظننته يجمع بين كلمتين، فقلت‏:‏ ما اسمك‏؟‏ فقال‏:‏ حريقيص‏.‏ فقلت‏:‏ أما كفى أهلك أن سموك حرقوصاً حتى حقروا اسمك‏؟‏ فقال‏:‏ إن السقط يحرق الحرجة فعجبت من جوابه، واتصل الكلام بيننا، فقلت‏:‏ أنشدنا شيئاً من أشعار قومك‏.‏ قال‏:‏ نعم، أنشدنك لمرارنا‏؟‏ قلت‏:‏ افعل‏.‏ فقال‏:‏

سكنوا شبيثاً والأحص وأصبحت *** نزلت منازلهم بنو ذبيان

وإذا يقال أتيتم لم يبرحو *** حتى تقيم الحرب سوق طعان

وإذا فلانٌ مات عن أكرومةٍ *** رقعوا معاوز فقده بفلان

قال‏:‏ فكادت الأرض أن تسوخ بي لحسن إنشاده وجودة الشعر‏.‏ فأنشدت الرشيد هذه الأبيات، فقال‏:‏ وددت يا أصمعي أن لو رأيت هذا الغلام فكنت أبلغه أعلى المراتب‏.‏ انتهى‏.‏ وحمى ضرية، بفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المهملة وتشديد المثناة التحتية‏:‏ نسب هذا الحمى إلى ضرية بنت ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وهو أكبر الأحماء من ضرية إلى المدينة، وهي أرض كثيرة العشب‏.‏

وأول من حماه في الإسلام عمر بن الخطاب لإبل الصدقة وظهر الغزاة، وكان حماه ستة أميالٍ من كل ناحية من نواحي ضرية، وضرية في أوسط الحمى‏.‏ والحرقوص، بالقاف وبالمهملات، كعصفور‏:‏ دويبةٌ كالبرغوث، ربما نبت له جناحان فطار‏.‏ والسقط، قال القالي‏:‏ هو ما يسقط من الزند إذا قدح‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ في سقط النار وسقط الولد وسقط الرمل ثلاث لغات‏:‏ الضم والفتح والكسر‏.‏ وزناد العرب من خشب، وأكثر ما يكون من المرخ والعفار، ولذلك قال الأعشى‏:‏ المتقارب

زنادك خير زناد الملو *** ك صادف منهن مرخٌ عفارا

وإنما يؤخذ عود قدر شبر فيثقب في وسطه ثقب لا ينفذ، ويؤخذ عود آخر قدر ذراع فيحدد طرفه، فيجعل ذلك المحدد في ذلك الثقب، وقد وضعه بين رجليه، فيديره ويفتله فيوري ناراً‏.‏ فالأعلى زند، والأسفل زندة‏.‏ والحرجة، بفتح الحاء والراء المهملتين بعدهما جيم، قال القالي‏:‏ هو الشجر الكثير الملتف، وجمعه حراج وأحراج‏.‏

قال العجاج‏:‏ الرجز

عاين حياً كالحراج نعمه *** يكون أقصى شله محرنجمه

يقول‏:‏ عاين هذا الجيش الذي أتانا حياً‏.‏ ويعني بالحي قومه بني سعد‏.‏ والنعم‏:‏ الإبل‏.‏ وأقصى‏:‏ أبعد‏.‏ وشله‏:‏ طرده‏.‏ ومحرنجمه‏:‏ مبركه حيث يجتمع بعضه إلى بعض‏.‏

والمعنى أن الناس إذا فوجئوا بالغارة طردوا إبلهم، وقاموا هم يقاتلون، فإن انهزموا كانوا قد نجوا بها‏.‏ يقول‏:‏ فهؤلاء من عزهم ومنعتهم لا يطردونها، ولكن يكون أقصى طردهم أن ينيخوها في مبركها ثم يقاتلوا عنها‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ سكنوا شبيثاً ، وهو بضم الشين المعجمة وفتح الموحدة وآخره ثاء مثلثة‏:‏ اسم ماءٍ لبني تغلب‏.‏

قال الجعدي وذكر كليباً لما طعنه جساس‏:‏ الطويل

فقال لجساس أغثني بشربةٍ *** من الماء وامننها علي وأنعم

فقال‏:‏ تجاوزت الأحص وماءه *** وبطن شبيثٍ وهو ذو مترسم

مترسم، أي‏:‏ موضع الماء لمن طلبه‏.‏ وقال عمرو بن الأهتم‏:‏ الطويل

فقال لجساس أغثني بشربةٍ *** وإلا فنبئ من لقيت مكاني

فقال‏:‏ تجاوزت الأحص وماءه *** وبطن شبيثٍ وهو غير دفان

كذا في المعجم للبكري‏.‏ قال السكري‏:‏ يقال ماء دفن ومياهٌ دفان، أي‏:‏ مندفة، قد درس مواضعها‏.‏ والأحص بمهملتين، قال البكري في معجمه‏:‏ هو على وزن أفعل، وادٍ لبني تغلب، كانت فيه وقائعهم مع إخوتهم بكر‏.‏

قال مهلهل‏:‏ الكامل

وادي الأحص لقد سقاك من العدى *** فيض الدموع بأهله الدعس

والدعس‏:‏ من منازل بكر‏.‏

وقال جرير‏:‏ الكامل

سادت همومي بالأحص وسادي *** هيهات من بلد الأحص بلادي

وبالأحص قتل جساس بن مرة، كليب بن ربيعة‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ تجاوزت الأحص وشبيثاً ، صار مثلاً يضرب لطالب الشيء بعد فوته، أورده الزمخشري في أمثاله، قال‏:‏ هما ماءان‏.‏

وأصله أن جساس بن مرة لما ركب ليلحق كليباً أردف خلفه عمرو بن الحارث ابن ذهل بن شيبان، فلما طعنه وبه رمقٌ، قال له‏:‏ الطويل

أغثني يا جساس منك بشربةٍ *** تعودها فضلاً علي وأنعم

فقال له جساس‏:‏ تجاوزت الأحص وشبيثاً‏.‏ أراد‏:‏ إنك تباعدت عن موضع سقياك ثم نزل عمرٌو فحسب أنه يسقيه، فلما علم أن نزوله للإجهاز عليه قال‏:‏ البسيط

المستجير بعمرٍو عند كربته *** كالمستجير من الرمضاء بالنار

وأصبحت، نزلت إلخ، بنو ذبيان اسم أصبحت، وجملة نزلت‏:‏ خبرها، وتقدم من الشارح أنه يجوز وقوع الماضي خبراً للأفعال الناقصة‏.‏

وقوله‏:‏ وإذا يقال أتيتم إلخ، هذا البيت هو الذي أعجب الأصمعي والرشيد، لدلالته على كمال الشجاعة‏.‏ وأتيتم‏:‏ بالبناء للمفعول يستعمل في المكروه، أي‏:‏ دهيتم بمجيء العدو‏.‏ وبرح الشيء، من باب تعب، براحاً‏:‏ زال من مكانه‏.‏

وروى‏:‏ الخيل بدل الحرب‏.‏ والطعان‏:‏ المطاعنة بالرمح‏.‏

وقوله‏:‏ عن أكرومة ، عن متعلقة بحال محذوفة، أي‏:‏ منصرفاً عن أكرومة بضم الهمزة، أي‏:‏ عن ذكرٍ جميل، ومنقبةٍ كريمة‏.‏ والأكرومة من الكرم، كالأعجوبة من العجب‏.‏

وقوله‏:‏ رقعوا معاوز إلخ، رقعوا بالقاف، من رقعت الثوب رقعاً من باب نفع، إذا جعلت مكان القطع خرقةً، واسمها رقعة، والمعاوز، قال القالي‏:‏ هي الثياب الخلقان‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ المعوزة والمعوز بكسر أولهما‏:‏ الثوب الخلق الذي يبتذل، والجمع معاوز‏.‏ والفقد‏:‏ مصدر فقدته فقداً من باب ضرب، إذا عدمته‏.‏ يقول‏:‏ إذا مات منهم سيد، أقاموا موضعه سيداً آخر‏.‏ والمرار الفقعسي الأسدي هو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، بفتح الميم وتشديد الراء الأولى‏.‏ وينسب تارة إلى فقعس وهو أحد آبائه الأقربين، وتارة إلى أسد بن خزيمة بن مدركة، وهو جده الأعلى‏.‏ وتقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين‏.‏

والموجود في نسخ الشرح‏:‏ المرار العبسي، وهو تحريف وتصحيفٌ من الفقعسي، إذ ليس من الشعراء المرار العبسي، وكأنه حرف بالنظر إلى قوله نزلت منازلهم بنو ذبيان، فإن عبساً وذبيان أخوان أبوا قبيلتين، وهما ابنا بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر‏.‏

ويدل أيضاً لما قلنا حكاية الأصمعي، إذ وقف على غلامٍ من بني أسد، وفيها أنشدك لمرارنا‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثلاثون بعد الخمسمائة

البسيط

أخذت بعين المال حتى نهكته *** وبالدين حتى ما أكاد أدان

وحتى سألت القرض عند ذوي الغنى *** ورد فلانٌ حاجتي وفلان

لما تقدم قبله، فإن فلاناً فاعل رد، وهو في غير حكاية‏.‏

روى أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني بسنده، قال‏:‏ مر عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب بمعن بن أوسٍ المزني، وقد كف بصره، فقال له‏:‏ يا معن كيف حالك‏؟‏ فقال له‏:‏ ضعف بصري، وكثر عيالي، وغلبني الدين‏.‏ قال‏:‏ وكم دينك‏؟‏ قال‏:‏ عشرة آلاف درهم‏.‏ فبعث بها إليه، ثم مر من الغد، فقال له‏:‏ كيف أصبحت يا معن‏؟‏ قال‏:‏

أخذت بعين المال حتى نهكته ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيتين

قال له عبيد الله‏:‏ الله المستعان، إنا بعثنا إليك بالأمس لقمةً، فما لكتها حتى انتزعت من يديك، فأي شيءٍ للأهل والقرابة والجيران، وبعث إليه بعشرة آلاف درهمٍ أخرى، فقال معنٌ يمدحه‏:‏ الطويل

إنك فرعٌ من قريشٍ وإنم *** يمج الندى منها البحور الفوارع

ثووا قادةً للناس بطحاء مكة *** لهم وسقايات الحجيج الدوافع

فلما دعوا للموت لم تبك منهم *** على حادثات الدهر العيون الدوامع

قوله‏:‏ أخذت بعين المال إلخ، يقال‏:‏ أخذ الخطام، وأخذ به، على زيادة الباء، وأخذت مضمن معنى تصرفت‏.‏ وعين المال هنا‏:‏ نقده، فإن العين له معانٍ منها النقد‏.‏ وحتى هنا بمعنى الغاية‏.‏ ونهكته‏:‏ أتلفته ومزقته، وهو من نهكته الحمى، إذا جهدته وأضنته ونقصت لحمه، جاء من باب نفع ومن باب فرح، ومن باب نهكت الثوب من باب نفع‏:‏ لبسته حتى خلق‏.‏ يقول‏:‏ تصرفت بالمال النقد، وأسرفت فيه إلى أن فني‏.‏

قوله‏:‏ وبالدين معطوف على قوله بعين المال، أي‏:‏ وأخذت الدين من هنا ومن هنا حتى ما بقي من يقرضني‏.‏ وأكاد بفتح الهمزة بمعنى أقرب‏.‏

قال في المصباح‏:‏ كاد يفعل كذا يكاد، من باب تعب‏:‏ قارب الفعل‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ قال اللغويون‏:‏ كدت أفعل، معناه عند العرب قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل معناه، فعلت بعد إبطاء‏.‏ قال الأزهري‏:‏ وهو كذلك، وشاهد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون‏}‏‏.‏ وقد يكون ما كدت أفعل بمعنى ما قاربت‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا الأخير هو المراد هنا‏.‏ وأدان‏:‏ مجهول دنته بمعنى أقرضته، قال صاحب المصباح‏:‏ قال جماعة‏:‏ يستعمل دان لازماً ومتعدياً، فيقال‏:‏ دنته، إذا أقرضته، فهو مدين ومديون، واسم الفاعل دائن فيكون الدائن من يأخذ الدين على كونه لازماً، ومن يعطيه على كونه متعدياً‏.‏ وقال ابن القطاع‏:‏ دنته أقرضته، ودنته استقرضت منه‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ لا يستعمل دان إلا لازماً فيمن يأخذ الدين‏.‏ وقال ابن السكيت أيضاً‏:‏ دان الرجل إذا استقرض، فهو دائن‏.‏ وكذلك قال ثعلب، ونقله الأزهري أيضاً‏.‏

وعلى هذا فلا يقال منه مدين ولا مديون، لأن اسم المفعول إنما يكون من فعل متعدٍّ، وهذا الفعل لازم، فإذا أردت التعدي قلت‏:‏ أدنته وداينته‏.‏ قاله أبو زيد، وابن السكيت، وابن قتيبة، وثعلب‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ وحتى سألت القرض إلخ، سألت هنا بمعنى طلبت، والقرض، بفتح القاف وكسرها، وهو ما تعطيه غيرك من المال لتقضاه‏.‏ والفرق بينه وبين الدين أن الدين أعم منه، يكون ثمن مبيع وغيره، والقرض خاصٌّ بالنقد من غير ربح‏.‏

وقوله‏:‏ ورد فلان إلخ، معطوف على سألت، قال أبو هلال العسكري في كتاب الفروق في اللغة‏:‏ الفرق بين الفقر والحاجة أن الحاجة هي القصور عن المبلغ المطلوب، ولهذا يقال‏:‏ الثوب يحتاج إلى خرقة، وفلان يحتاج إلى عقل، وذلك إذا كان قاصراً غير تام‏.‏ والفقر خلاف الغنى‏.‏

فأما قولهم‏:‏ مفتقر إلى عقل فهو استعارة، ومحتاج إلى عقل حقيقة‏.‏ والفرق بين النقص والحاجة‏:‏ أن النقص سبب الحاجة، والمحتاج يحتاج لنقصه، والنقص أعم من الحاجة، لأنه يستعمل فيما يحتاج وفيما لا يحتاج‏.‏

وقوله‏:‏ فما لكتها من لاك اللقمة يلوكها لوكاً، إذا مضغها‏.‏

وقوله‏:‏ إنك فرع من قريش إلخ، هو مخروم‏.‏

ويروى‏:‏ وإنك بالواو فلا خرم‏.‏ والفرع مستعار من فروع الشجرة، وهي أغصانها‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ هو فرع قومه للشريف منهم‏.‏ ومج الماء من فيه‏:‏ رمى به‏.‏ والندى‏:‏ أصل المطر، ويطلق لمعانٍ، يقال‏:‏ أصابه ندًى من طلٍّ ومن عرق، وندى الخير وندى الشر، وندى الصوت‏.‏ والندى‏:‏ ما أصاب من بلل‏.‏

وبعضهم يقول‏:‏ ما سقط آخر الليل ندًى، وأما الذي يسقط أوله، فهو السدى بالقصر أيضاً‏.‏ وضمير منها لقريش‏.‏ وشبه أجوادهم وكرماءهم بالبحور‏.‏ والفوارع‏:‏ جمع فارع، وهو العالي‏.‏

وقوله‏:‏ ثووا قادة الناس إلخ، ثوى هنا متعدٍّ بمعنى سكنوا ونزلوا‏.‏ قال صاحب المصباح‏:‏ ثوى بالمكان وفيه، أي‏:‏ أقام، وربما تعدى بنفسه‏.‏ وقادة‏:‏ جمع قائد، من قاد الأمير الجيش والناس قيادةً‏.‏ وبطحاء مكة مفعول ثووا، ولهم خبر مقدم، والدوافع مبتدأ مؤخر‏:‏ جمع دافع‏.‏

يقال‏:‏ شاةٌ وناقة دافعٌ ودافعة ومدفاع، وهي التي تدفع اللبأ في ضرعها قبيل النتاج‏.‏ وفي بمعنى مع‏.‏ والسقاية، بالكسر‏:‏ الموضع يتخذ لسقي الناس‏.‏ والحجيج‏:‏ جمع حاجٌ‏.‏

وقوله‏:‏ فلما دعوا للموت بالبناء للمفعول‏.‏ يصفهم بالشجاعة، يقول‏:‏ إن طلبوا للحرب لم تدمع لهم عينٌ خوفاً من القتل‏.‏ وعبيد الله بن العباس هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أخو عبد الله بن العباس حبر هذه الأمة‏.‏ قال ابن عبد ربه في العقد الفريد‏:‏ أجواد الحجاز ثلاثة في عصر واحد‏:‏ عبيد الله بن العباس، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن العاص‏.‏

فمن جود عبيد الله بن العباس أنه أول من فطر جيرانه، وأول من وضع الموائد على الطرق، وأول من حيا على طعامه، وأول من أنهبه‏.‏ وفيه يقول شاعر المدينة‏:‏ الطويل

وفي السنة الشهباء أطعمت حامض *** وحلواً ولحماً تامكاً وممزعا

وأنت ربيعٌ لليتامى وعصمةٌ *** إذا المحل من جو السماء تطلعا

أبوك أبو الفضل الذي كان رحمةً *** وغيثاً ونوراً للخلائق أجمعا

ومن جوده‏:‏ أنه أتاه رجلٌ وهو بفناء داره، فقال‏:‏ يا ابن عباس، إن لي عندك يداً، وقد احتجت إليها‏.‏ فصعد فيه بصره وصوبه فلم يعرفه، ثم قال‏:‏ ما يدك عندنا‏؟‏ قال‏:‏ رأيتك واقفاً بزمزم وغلامك يمتح لك من مائها، والشمس قد صهرتك، فظللتك بطرف كسائي حتى شربت‏.‏

قال‏:‏ إني لأذكر ذلك، وإنه يتردد بين خاطري وفكري‏.‏ ثم قال لقيمه‏:‏ ما عندك‏؟‏ قال‏:‏ مائتا دينار وعشرة آلاف درهم‏.‏ قال‏:‏ ادفعها إليه، وما أراها تفي بحق يده عندنا‏.‏

قال له الرجل‏:‏ والله لو لم يكن لإسماعيل ولدٌ غيرك لكان فيه ما كفاه، فكيف وقد ولد سيد الأولين والآخرين، محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم شفع بك وبأبيك ومن جوده أيضاً‏:‏ أن معاوية حبس عن الحسين بن علي عليهما السلام صلاته حتى ضاقت عليه حاله، فقيل‏:‏ لو وجهت إلى ابن عمك عبيد الله، فإنه قدم بنحوٍ من ألف ألف درهم‏.‏

فقال الحسين‏:‏ وأين تقع ألف ألفٍ من عبيد الله، فوالله لهو أجود من الريح، إذا عصفت، وأسخى من البحر، إذا زخر ثم وجه إليه مع رسوله بكتابٍ ذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته، وضيق حاله، وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم، فلما قرأ عبيد الله كتابه - وكان من أرق الناس قلباً وألينهم عطفاً - انهملت عيناه، ثم قال‏:‏ ويلك يا معاوية مما اجترحت يداك من الإثم، حين أصبحت لين المهاد، رفيع العماد، والحسين يشكو ضيق الحال، وكثرة العيال‏:‏ ثم قال لقهرمانه‏:‏ احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من فضة وذهب، وثوب ودابة، وأخبره أني شاطرته مالي، فإن أقنعه ذلك وإلا فارجع واحمل إليه الشطر الآخر‏.‏

قال له القيم‏:‏ فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها‏؟‏ قال‏:‏ إذا بلغنا ذلك دللتك على أمر تقيم به حالك‏.‏ فلما أتى الرسول برسالته إلى الحسين، قال‏:‏ إنا لله، حملت والله على ابن عمي، وما حسبته يتسع لنا بهذا كله‏.‏

فأخذ الشطر من ماله‏.‏ وهو أول من فعل ذلك في الإسلام‏.‏

ومن جوده‏:‏ أن معاوية أهدى إليه وهو عنده بالشام من هدايا النيروز حللاً كثيرة، ومسكاً، وآنيةً من ذهب وفضة، ووجهها مع حاجبه، فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب، وهو ينظر إليها، فقال‏:‏ هل في نفسك منها شيءٌ‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، والله إن في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما السلام فضحك عبيد الله، وقال‏:‏ فشأنك بها فهي لك‏.‏

قال‏:‏ جعلتك فداك، أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيجد علي‏.‏ قال‏:‏ فاختمها بخاتمك وادفعها إلى الخازن، فإذا حان خروجنا حملها إليك ليلاً‏.‏ فقال الحاجب‏:‏ والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم، ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه يعني معاوية‏.‏

فظن عبيد الله أنها مكيدة منه، قال‏:‏ دع عنك هذا الكلام فإنا قومٌ نفي بما وعدنا، ولا ننقض ما أكدنا‏.‏

ومن جوده أيضاً‏:‏ أنه أتاه سائل، وهو لا يعرفه، فقال له‏:‏ تصدق، فإني نبئت أن عبيد الله بن عباس أعطى سائلاً ألف درهم، واعتذر إليه‏.‏ فقال له‏:‏ وأين أنا من عبيد الله‏؟‏ قال‏:‏ أين أنت منه في الحسب أم كثرة المال‏؟‏ قال‏:‏ فيهما‏.‏

قال‏:‏ أما الحسب في الرجل فمروءته وفعله، وإذا شئت فعلت، وإذا فعلت كنت حسيباً‏.‏ فأعطاه ألفي درهم، واعتذر إليه من ضيق الحال، فقال له السائل‏:‏ إن لم تكن عبيد الله بن عباس فأنت خير منه، وإن كنت هو فأنت اليوم خيرٌ منك أمس‏.‏ فأعطاه ألفاً أخرى، فقال السائل‏:‏ هذه هزة كريمٍ حسيب، والله لقد نقرت حبة قلبي، فأفرغتها في قلبك فما أخطأت إلا باعتراض الشك من جوانحي‏.‏

ومن جوده أيضاً‏:‏ أنه جاءه رجلٌ من الأنصار، فقال‏:‏ يا ابن عم رسول الله، إنه ولد لي في هذه الليلة مولود، وإني سميته باسمك تبركاً مني به، وإن أمه ماتت‏.‏

فقال عبيد الله‏:‏ بارك الله لك في الهبة، وأجزل لك الأجر على المصيبة‏.‏ ثم دعا بوكيله، وقال‏:‏ انطلق الساعة فاشتر للمولود جاريةً تحضنه، وادفع إليه مائتي دينار للنفقة على تربيته‏.‏

ثم قال للأنصاري‏:‏ عد إلينا بعد أيام فإنك جئتنا، وفي العيش يبس، وفي المال قلة‏.‏

قال الأنصاري‏:‏ لو سبقت حاتماً بيومٍ واحد ما ذكرته العرب أبداً، ولكنه سبقك، فصرت له تالياً، وأنا أشهد أن عفوك أكثر من مجهوده، وطل كرمك أكثر من وابله‏.‏

وأما معن بن أوس المزني فهو ابن أوس بن نصر بن زياد بن اسعد بن أسحم بن ربيعة بن عداء بن ثعلبة بن ذؤيب بن سعد بن عداء بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر‏.‏

ومزينة بالتصغير، هي أم عمرو بن أد بن طابخة‏.‏ كذا في جمهرة الأنساب للكلبي‏.‏

وأسحم بالمهملتين‏.‏ وعداءٌ في الموضعين بالكسر والمد والتخفيف‏.‏ وروى في الأول عدي بتشديد الياء‏.‏ ومعنٌ شاعر مجيدٌ فحل من مخضرمي الجاهلية والإسلام، أورده ابن حجر في المخضرمين من الإصابة، ولد مدائح في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعمر إلى أيام الفتنة بين عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم‏.‏

وكان معاوية يفضل مزينة في الشعر، ويقول‏:‏ كان اشعر الجاهلية منهم، وهو زهير، وكان اشعر الإسلام منهم، وهو كعب بن زهير‏.‏

روى صاحب الأغاني أن معن بن أوس كان مئناثاً، وكان يحسن صحبة بناته وتربيتهن، فولد لبعض عشيرته بنتٌ فكرهها، وأظهر جزعاً من ذلك، فقال معن‏:‏ الطويل

رأيت رجالاً يكرهون بناتهم *** وفيهن لا تكذب نساءٌ صوالح

وفيهن والأيام يعثرن بالفتى *** نوادب لا يمللنه ونوائح

والبيت الثاني من أبيات مغني اللبيب على أن فيه الاعتراض بين المبتدأ والخبر‏.‏

قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي بعد إيراد هذين البيتين و‏:‏ أنشد صاعد بن الحسن لحسان بن الغدير، أحد بني عامر شعراً، فيه البيت الأول من هذين البيتين، وهي أبيات منها‏:‏

لأي زمانٍ يخبأ المرء نفعه *** غداً بل غدٌ للموت غادٍ ورائح

إذا المرء لم ينفعك حياً فنفعه *** أقل إذا رصت عليه الصفائح

رأيت رجالاً يكرهون بناتهم *** وهن البواكي والجيوب النواضج

وللموت سوراتٌ بها تنقض القوى *** وتسلو عن المال النفوس الشحائح

وما النأي بالبعد المفرق بينن *** بل النأي ما ضمت عليه الضرائح

وروى أن عبد الملك بن مروان، قال يوماً وعنده عدة من آل بيته وولده‏:‏ ليقل كل واحدٍ منكم أحسن شعرٍ سمعه‏.‏ فذكروا لامرئ القيس، والأعشى، وطرفة، فأكثروا حتى أتوا على محاسن ما قالوا، فقال عبد الملك‏:‏ أشعرهم، والله، الذي يقول‏:‏ الطويل

وذي رحمٍ قلمت أظفار ضغنه *** بحلمي عنه وهو ليس له حلم

إذا سمته وصل القرابة سامني *** قطيعتها تلك السفاهة والظلم

فأسعى لكي أبني ويهدم صالحي *** وليس الذي بيني كمن شأنه الهدم

يحاول رغمي لا يحاول غيره *** وكالموت عندي أن يحل به رغم

فما زلت في لينٍ له وتعطفٍ *** عليه كما تحنو على الولد الأم

لأستل منه الضغن حتى سللته *** وإن كان ذا ضغنٍ يضيق به الحلم

قالوا‏:‏ ومن قائلها يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏:‏ معن بن أوس المزني‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الحادي والثلاثون بعد الخمسمائة

البسيط

الله أعطاك فضلاً من عطيته *** على هنٍ وهنٍ فيما مضى وهن

على أنه قد يكنى ب هن عن العلم كما هنا‏.‏

وهذا من شرح المفصل لابن الحاجب، وعبارته‏:‏ وقد يكنى بهن عما لا يراد التصريح به لغرضٍ، كقول ابن هرمة يخاطب حسن بن زيد‏:‏

الله أعطاك فضل ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

يعني عبد الله وحسناً وإبراهيم، بني حسن بن حسن، كأنهم كانوا وعدوه شيئاً فوفى به حسن‏.‏

ومن ثم قال بعضهم‏:‏ يكنى به عن الأعلام أيضاً‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أحد شراح أبيات الإيضاح للفارسي‏:‏ قال الهروي‏:‏ هن وهنة كناية عن الشيء لا تذكره باسمه‏.‏ ولم يخص جنساً من غيره‏.‏

وقال أبو الحسن الأخفش في الأوسط له‏:‏ تقول‏:‏ هذا فلان بن فلان، وهذا هن بن هن، وهذه هنة بنت هنة، كأنه قيل‏:‏ هذا زيد بن عمرو فلم يذكره، فوضع بأنها يكنى بها عن الأعلام‏.‏ وهو صحيح، ويدل على ذلك قول ابن هرمة يمدح حسن بن زيد‏:‏

الله أعطاك فضلاً من عطيته ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

يعني‏:‏ حسناً وإبراهيم وعبد الله، بني حسن بن حسن، وكأنهم كانوا وعدوه شيئاً فوفى به حسن‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقال الشنواتي في حاشية الأوضح‏:‏ الهن يطلق، ويراد به الحقير، قال الشاعر‏:‏

الله أعطاك فضل ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

يعني على أقوام هم بالنسبة إليك صغارٌ محتقرون‏.‏ انتهى‏.‏

والبيت من أبيات ثلاثة رواها أبو العباس أحمد بن يحيى، الشهير بثعلب في أماليه، قال‏:‏ أخبرنا محمد، قال حدثنا أبو العباس‏:‏ قال حدثني عمر بن شبة قال‏:‏ أخبرني أبو سلمة، قال‏:‏ أخبرني ابن زبنج راوية ابن هرمة، قال‏:‏ أصابت ابن هرمة أزمةٌ؛ فقال لي في يوم حارٍّ‏:‏ اذهب فتكار لي حمارين إلى ستة أميال، ولم يسم موضعاً‏.‏ فركب واحداً وركبت واحداً، ثم سرنا حتى انتهينا إلى قصور حسن بن زيد ببطحاء ابن أزهر، فدخلنا مسجده‏.‏

فلما زالت الشمس، خرج علينا مشتملاً على قميصه، فقال لمولى له‏:‏ أذن‏.‏ فأذن ثم لم يكلمنا كلمة، ثم قال له‏:‏ أقم‏.‏ فأقام فصلى بنا، ثم أقبل على ابن هرمة، فقال‏:‏ مرحباً بك أبا إسحاق، حاجتك‏؟‏ قال‏:‏ نعم، بأبي أنت وأمي، أبياتٌ قلتها - وقد كان عبد الله بن حسن، وحسن، وإبراهيم، بنو حسن بن حسن، وعدوه شيئاً فأخلفوه - فقال‏:‏ هاتها‏.‏

فأنشد‏:‏

أما بنو هاشمٍ حولي فقد قرعو *** نبلي الصياب التي جمعت في قرني

فما بيثرب منهم من أعاتبه *** إلا عوائد أرجوهن من حسن

الله أعطاك فضلاً من عطيته *** على هنٍ وهنٍ فيما مضى وهن

قال‏:‏ حاجتك‏؟‏ قال‏:‏ لابن أبي مضرس علي خمسون ومائة دينار‏.‏ قال‏:‏ فقال لمولى له‏:‏ أبا هيثم، اركب هذه البغلة، فأتني بابن أبي مضرس، وذكر حقه‏.‏

قال‏:‏ فما صلينا العصر حتى جاء به، فقال له‏:‏ مرحباً بك يا ابن أبي مضرس، أمعك ذكر حقٍّ على ابن هرمة‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فامحه‏.‏ قال‏:‏ فمحاه‏.‏

ثم قال‏:‏ يا هيثم بع ابن أبي مضرس من تمر الخانقين بمائة وخمسين ديناراً، وزده في كل دينار ربع دينار، وكل لابن هرمة بخمسين ومائة دينار تمراً، وكل لابن زبنج بثلاثين ديناراً تمراً‏.‏

قال‏:‏ فانصرفنا من عنده؛ فلقيه محمد بن عبد الله بن حسن بالسيالة، وقد بلغه الشعر، فغضب لأبيه وعمومته، فقال‏:‏ أيا ماص بظر أمه أأنت القائل‏:‏

على هن وهن فيما مضى وهن

قال‏:‏ لا، والله بأبي أنت، ولكني الذي أقول لك‏:‏ البسيط

لا والذي منه نعمةٌ سلفت *** نرجو عواقبها في آخر الزمن

لقد أبنت بأمرٍ ما عمدت له *** ولا تعمده قولي ولا سنني

فكيف أمشي مع الأقوام معتدل *** وقد رميت بريء العود بالأبن

ما غيرت وجهه أمٌّ مهجنةٌ *** إذا القتام تغشى أوجه الهجن

قال‏:‏ وأم الحسن أم ولد‏.‏ انتهى ما رواه ثعلب‏.‏

قال أصحاب الأغاني‏:‏ ويروى أن ابن هرمة لما قال هذا الشعر في حسن بن زيد قال عبد الله بن حسن‏:‏ والله ما أراد الفاسق غيري، وغير أخوي حسن وإبراهيم‏.‏

وكان عبد الله يجري عليه رزقاً، فقطعه عنه، وغضب عليه، فأتاه يعتذر، فنحي وطرد، فسأل رجالاً أن يكلموه فردهم، فيئس من رضاه فاجتنبه وخافه، فمكث ما شاء الله، ثم مر عشيةً وعبد الله على زربيته فلما رآه عبد الله تضاءل وتصاغر وأسرع في المشي، فرق له عبد الله وأمر به فردوه، وقال له‏:‏ يا فاسق، تقول‏:‏ على هن وهن أتفضل الحسن علي وعلى أخوي‏؟‏ فقال‏:‏ بأبي أنت وأمي، ورب هذا القبر ما عنيت إلا فرعون وهامان وقارون، أفتغضب لهم‏؟‏ فضحك، ورد عليه جرايته‏.‏ انتهى‏.‏ وزبنج، بفتح الزاي المعجمة وفتح الموحدة وتشديد النون المفتوحة بعدها جيم‏.‏ والأزمة‏:‏ الشدة والضائقة‏.‏

وقوله‏:‏ فتكار أمرٌ من تكاري يتكارى بمعنى اكترى يكتري، أي‏:‏ أخذ الدابة بالكراء والأجرة‏.‏

وحسن بن يزيد، هو حسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ولي المدينة، وكان شريفاً فاضلاً‏.‏ فزيد بن حسن هو أخو حسن بن حسن‏.‏ فحسن بن زيد يكون ابن عمٍّ لهؤلاء الإخوة الثلاثة‏.‏

وقوله‏:‏ أما بنو هاشم حولي إلخ، قرعت‏:‏ أصابت‏.‏ ونبلي، بالفتح‏:‏ سهامي‏.‏

والصياب، بالكسر‏:‏ جمع صائب، من صاب السهم يصوب صيبوبة، أي‏:‏ قصد ولم يجز وصاب السهم القرطاس يصيبه صيباً‏:‏ لغة في أصابه‏.‏ والقرن، بالتحريك‏:‏ الجعبة‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ القرن‏:‏ جعبة من جلود تكون مشقوقة، ثم تخزر حتى تصل الريح إلى الريش فلا يفسد‏.‏ ويثرب هي المدينة المنورة‏.‏ وقوله‏:‏ إلا عوائد استثناءٌ منقطع، أي‏:‏ لكن‏.‏ وعوائد‏:‏ مبتدأٌ، ز أرجوهن‏:‏ خبره، وحسن هو حسن بن زيد‏.‏ يقول‏:‏ ليس في المدينة من أعاتبه على ترك إحسانه إلي، لكنني أرجو العوائد من حسن ابن زيد‏.‏ والعوائد‏:‏ جمع عائدة، وهي الصلة والإحسان‏.‏

وقوله‏:‏ الله أعطاك فضلاً الفضل هنا‏:‏ الزيادة‏.‏ يقول‏:‏ إن الله أعطاك فضلاً على أبناء عمك، أي‏:‏ فضلك عليهم‏.‏

وقوله‏:‏ فيما مضى ، أي‏:‏ في الأزل‏.‏ وعبر عن كل واحدٍ منهم بهنٍ الموضوع لما يستقبح ذكره من أسماء الجنس‏.‏

وليس هن كناية عن علم كلٍّ منهم، ولو كان كناية عنهم لما غضب على الشاعر محمد بن عبد الله لأبيه وعميه، ولما اشتد غضب عبد الله لنفسه ولأخويه‏.‏ ولو كان الغضب لمجرد التفضيل لما بلغ هذا المبلغ منهم، وهم فروع الإمامة، وهضاب الحلم والإغضاء‏.‏

وقوله‏:‏ حاجتك ، هو منصوب في الموضعين بتقدير اذكر‏.‏ وقوله‏:‏ من تمر الخانقين ، بالخاء المعجمة والنون والقاف، هو موضع، ويعرب إعراب المثنى‏.‏ كذا في المعجم‏:‏ هي قرية جامعة، بينها وبين المدينة تسعة وعشرون ميلاً، وهي لولد حسن ابن علي بن أبي طالب، وهي في الطريق منها إلى مكة‏.‏

وقوله‏:‏ لا والذي أنت منه نعمةٌ سلفت إلخ، لا‏:‏ نفيٌ لما اتهم به الشاعر، والواو للقسم‏.‏

يعني‏:‏ ليس الأمر كما توهم، والله الذي أنعم بك علينا، ونرجو حسن عاقبة هذه النعمة عند انقضاء الأجل بأن يميتنا على حبكم‏.‏

وقوله‏:‏ لقد أبنت إلخ، هذا جواب القسم، وأبنت‏:‏ بالبناء للمفعول، أي‏:‏ ذكرت بسوءٍ، وهو بالألف بسوءٍ، وهو بالألف والباء والنون‏.‏ يقال‏:‏ فلانٌ يؤبن بكذا، أي‏:‏ يذكر بقبيح‏.‏ وأبنه يأبنه من باب نصر وضرب، إذا اتهمه به‏.‏ وعمدت‏:‏ قصدت‏.‏ والسنن، بفتحتين‏:‏ الطريقة‏.‏

وقوله‏:‏ فكيف أمشي مع الأقوام إلخ، المعتدل‏:‏ المستقيم‏.‏ وجملة قد رميت من الفعل والفاعل، حال من فاعل أمشي‏.‏ ورميت بمعنى قذفت‏.‏ بريء العود مفعوله، وبالأبن متعلق برميت‏.‏ والأبن، بضم الألف وفتح الموحدة‏:‏ جمع أبنة بضم الألف وسكون الموحدة، وهي العقدة في العود، ومتعلق بريء محذوف، أي‏:‏ بريء العود من الأبن‏.‏

يقول‏:‏ فكيف أكون بين الناس مستقيماً إذا قذفت المستقيم بالعيوب‏.‏

وقوله‏:‏ ما غيرت وجهه إلخ، غيره تغييراً‏:‏ جعله غيراً‏.‏ يريد أن أم الحسن ابن الحسن، وإن كانت أم ولد، ما ولدت ابنها الحسن مغايراً لشكل آبائه، كما يقال‏:‏ الولد للخال ، بل ولدته على صورة آبائه‏:‏ سيداً جليلاً شهماً‏.‏ والمهجنة، بكسر الجيم‏:‏ وهي المرأة التي تلد هجيناً‏.‏ والهجين‏:‏ الذي تلده أمٌّ ليست بعربية‏.‏ والقتام، بفتح القاف‏:‏ الغبار‏.‏ وغشى تغشية، أي‏:‏ غطى تغطية‏.‏ وأوجه مفعوله جمع وجه‏.‏ والهجن، بضمتين‏:‏ جمع هجين‏.‏ والزربية، بكسر الزاء المعجمة وسكون الراء المهملة، هي الطنفسة وجمعها زرابي‏.‏ وابن هرمة، بفتح الهاء وسكون الراء بعدها ميم‏:‏ شاعرٌ مطبوع أدرك الدولتين، ومات في مدة هارون الرشيد‏.‏ واسمه إبراهيم، وتقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والستين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الرجز

يا مرحباه بحمار ناجيه

على أن هاء السكت في الوصل قد تحرك بالضم وبالكسر‏.‏

وتقدم في باب المندوب أن بعضهم يحركها بالفتح بعد الألف‏.‏ ويا‏:‏ حرف نداء، والمنادى محذوف، ومرحباً مصدر منصوب بعامل محذوف، أي‏:‏ صادف رحباً وسعة، حذف تنوينه لنية الوقف ووصل به هاء السكت، ثم عن له الوصل فوصل‏.‏ والباء متعلق به‏.‏ وحمار مضاف إلى ناجية‏.‏

وروى الفراء في تفسيره‏:‏ ناهيه بدل ناجيه، وهو اسم شخص‏.‏

وقد تقدم الكلام عليه في الشاهد السابع والأربعين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏